حينما تُتَرْجَم الأرقام إلى حياة.. الوجه الآخر للطفرة التقنية في السعودية
كثيراً ما تأسرنا لغة الأرقام في التقارير الاقتصادية، فتستوقفنا نسب النمو المئوية وحجم التدفقات المالية، ولكن القصة الحقيقية لواقع ريادة الأعمال في السعودية اليوم لا تكمن في الجداول الصماء، بل في تفاصيل حياتنا اليومية التي أعادت التقنية رسم ملامحها؛ فحين تشير أحدث التقارير المتخصصة، ومنها تقرير منصة "Consultancy-me"، إلى استحواذ المملكة على 50% من إجمالي تمويل رأس المال الجريء في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لعام 2023، فإننا لا نتحدث عن مجرد مؤشر استثماري، بل نتحدث عن ثقةٍ عالميةٍ ببيئةٍ جعلت من الإنسان محوراً للتنمية، ومن التقنية وسيلةً للعيش الكريم.
التقنية المالية: من لغة الأرقام إلى استقرار الأسر
لعل النظر بتمعن إلى قطاع التقنية المالية (Fintech) يكشف لنا جوهر هذا التحول؛ إذ لم تعد التطبيقات المالية مجرد أدوات للدفع الإلكتروني، بل أصبحت شريان حياة يُنظّم اقتصاد الأسرة ويدعم استقرار المنشآت الصغيرة والمتوسطة. ولنا في النماذج الوطنية الرائدة خير مثال؛ فشركة مثل "تمارا" التي حققت إيرادات لافتة تجاوزت 330 مليون ريال في الربع الثالث من عام 2025، وسجلت صافي دخل قارب 92 مليون ريال خلال الأشهر التسعة الأولى من العام، لم تحقق ذلك من فراغ، بل لأنها قدمت حلولاً تلامس احتياجات الناس الحقيقية، وتمنحهم المرونة المالية اللازمة، وتوفر للمتاجر السيولة التي تضمن بقاءها ونموها، وهذا هو الأثر الإنساني العميق للتقنية حين تتحول من كود برجي إلى أداة لتمكين البشر.
الذكاء الاصطناعي وجودة الحياة
وعلى المنوال ذاته، يعمل الذكاء الاصطناعي اليوم كعقلٍ جديدٍ يُدير مفاصل الاقتصاد الخدمي في المملكة؛ فها هي شركة "فودكس" تواصل نموها المتسارع محققةً إيرادات تجاوزت 21 مليون دولار في النصف الأول من العام الجاري، وهو نجاحٌ يرتكز بالأساس على رقمنة آلاف المطاعم والمقاهي، مما ينعكس مباشرةً على كفاءة التشغيل، ويحمي وظائف الشباب في هذا القطاع الحيوي، ويجعل تجربة ارتياد المطاعم أكثر سلاسةً وراحةً للمجتمع، مؤكداً أن الاستثمار في الذكاء الاصطناعي والحلول الرقمية هو استثمار في جودة الحياة قبل أن يكون استثماراً في البرمجيات.
المثلث الذهبي ومستقبل الاستثمار
إن ما يميز المشهد السعودي، وفقاً لقراءة الخبراء والمحللين، هو ذلك التناغم النادر بين ثلاث قوى قلما تجتمع في الأسواق الناشئة؛ وهي: وفرة رأس المال الجريء، والإصلاحات التنظيمية والتشريعات المرنة التي قلصت فترات التراخيص بنسبة تجاوزت 60%، والطلب المجتمعي الواعي. وقد خلق هذا "المثلث الذهبي" بيئةً جاذبةً للمواهب العالمية، تجلّت بوضوح في استقبال "كأس العالم لريادة الأعمال 2025" طلباتٍ من أكثر من 100 دولة؛ فهؤلاء المبتكرون لم يأتوا بحثاً عن الجوائز المليونية فحسب، بل وجدوا في المملكة أرضاً خصبةً لتحويل أحلامهم في مجالات الصحة الرقمية والطاقة النظيفة إلى واقعٍ يخدم البشرية.
ختاماً، إن المستهدفات الوطنية ضمن رؤية 2030 برفع مساهمة المنشآت الصغيرة والمتوسطة في الناتج المحلي من 20% إلى 35%، ليست مجرد طموح حكومي، بل هي وعدٌ بمستقبلٍ يكون فيه الابتكار متاحاً للجميع؛ حيث تتضافر الجهود لصناعة اقتصادٍ لا يكتفي بالنمو المالي، بل يضع نصب عينيه خدمة الإنسان، وتيسير حياته، وتحقيق رفاهيته عبر حلول ذكية ومستدامة.












